دعوة عامة




حدثت هذه القصة في آخر يوم من أيام تشرين الثاني وبعد هطول خفيف يبشر بالمزيد من المطر
خطوات شاردة وفستان أصفر حارق وعيون مليئة بخيبة الأمل والرغبة ببدايات جديدة
وكالنسيم البارد أخذتها خطواتها عبر الشوارع بدون وجهة محددة إلى أن توقفت على باب أحد المقاهي المختبئة بين الأزقة. نظرت إلى المدخل لبرهة ثم قالت لنفسها : لن أكون سجينة الخطط وتوقعات الآخرين بعد اليوم .. سأكون عفوية وأنظر أين تأخذني الحياة .. ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة .

دخلت المقهى فاستقبلها النادل مرحبا . لم تجبه . فقادها إلى طاولة صغيرة في وسط المقهى . ووسط الطاولة مزهرية بيضاء صغيرة ربط بها بالون أحمر يطفو فوق الطاولة بهدوء ودون إزعاج .

سألت النادل إن كان هناك مناسبة خاصة . فهز النادل رأسه مبتسما بالإيجاب . نظرت حولها لتجد المقهى خال تماما من الزبائن ومن البالونات الملونة على الطاولات . للحظة ظنت أن الطاولة محجوزة . ولكن لماذا يأتي بها النادل إلى هنا . .. وتوقفت عن التفكير ونفضت عنها قلقها وابتسمت … لا يهم .. يجب أن لا أكثر التفكير . يجب أن أبدأ حياة جديدة .. كما أني أحب اللون الأحمر . ورمقت البالون الذي يطفو بهدوء فوق الطاولة بابتسامة

 بعيد لحظات دخل شاب يحمل كتابين تحت إبطه وبين يديه ورقة وقلم يحاول بواسطتهما تشكيل ونحت فكرة ما .. شعره أشعث . نظارته سميكة . وجوربيه ليسا من نفس اللون . يبدو أن الجوع قاده لأقرب مكان أو لعلها رائحة القهوة والمخبوزات الطازجة .

دخل وجلس على طاولة عشوائية وطلب قهوة وبعض الخبز الساخن . لم يرفع عينيه عن ورقته طوال هذا الوقت .. بدى مشغولا بنهم شديد . وما أن حضرت القهوة ورشف منها حتى غزت بدنه رعشة دافئة , إحساس جديد .. كانت ألذ ما ذاقه منذ فترة .. نظر إلى الفنجان ثم إلى الورقة والقلم في يده الأخرى .. وقرر أنه يستحق بعض الوقت من الحرية .. الحرية من الهوس في العمل . الحرية من الأفكار التي تنخر قعر الجمجمة محاولة الخروج إلى أن يخرجها مخاض القلم .

ترك القلم جانبا وحمل الفنجان بكلتا يديه وعدل جلسته وارتشف رشفة أخرى . رفع عينيه المغلقتين إلى السماء وأطلق زفرة مليئة بالراحة والاكتفاء . كان يعيش اللحظة . نظر حوله وإذ به يرى هناك  في وسط المقهى تلك الفتاة الشاردة التي مازالت تحرك فنجانها وهي ترمق البالون الأحمر الذي يطفو فوق طاولتها بهدوء.

فستانها الناري لجم عينيه تجاهها ولأول مرة منذ عدة أشهر ولبرهة توقف عقله عن العمل تماما ..
لم يشعر بقدميه وهما تقودانه لاقتراف شيئ يعتقد بكل جوارحه أنه غير لائق وغبي تماما .. ولكن حواسه كانت غائبة عن الوعي .. تقدم من الطاولة في وسط المقهى وألقى التحية وسألها إن كان الكرسي الآخر على طاولتها شاغرا ..

للحظة تردد وشعر بالخجل . بالتأكيد هي ليست هنا بمفردها ..
من الواضح أنها هنا في موعد مع أحدهم ..
وقبل أن يستمر بجلد نفسه إبتسمت ورحبت به ودعته ليشاركها تلك الطاولة في وسط المقهى الفارغ ..

تبادلا الأسامي وعناوين البريد .. لمعت بينهما حوارات شيقة وكثيرة .. تقاذفا الضحكات والابتسامات ومضى الوقت .. مضى الوقت بسرعة إلى أن بدأت فرقة موسيقية صغيرة بعزف مقطوعات هادئة .
لم يلحظا أن المقهى كان مكتظا بالزبائن المتغامزين.

دعاها لرقصة ومدت يدها إليه .. رقصا طويلا بين ضحكات وابتسامات .
وما أن دقت الساعة منتصف الليل حتى تذكرا أن لكل منهما عالمه الخاص الذي يجب أن يعود إليه.. كل على حدى ..

خرجا من باب المقهى . وعم الصمت للحظات قبل أن يودعا بعضهما .. ويذهب كل منهما باتجاه .. ولكن ..
إن هي إلا لحظات قبل أن ينادي باسمها وتلتفت إليه ويدعوها أن يوصلها إلى البيت .

إبتسمت وشبكت ذراعها بذراعه ومضيا تحت ضوء القمر ..

لم يلتفت أي منهما إلى أن الكامل المقهى من الزبائن وموظفين كانو طوال الوقت يرمونهم بابتسامات ودهشة وبضع الكلمات والضحكات بين الحين والآخر .

وما أن غابا في آخر الطريق إنفجر المقهى بالتصفيق الحاد وكأنها حفلة رأس السنة وتبادل الجميع التهاني على هذه المناسبة الخاصة .

بعد عشر سنوات . نشر إعلان غريب جعل كل من يقرأه يبتسم أو يحك رأسه بتعجب .
كانت صيغة الإعلان دعوة عامة لكل المسافرين عبر الزمن لحضور مناسبة إلتقاء نجمين .
الموعد : في  آخر يوم من أيام تشرين الثاني قبل عشر سنوات.
المكان .. في ذالك المقهى المهجور 

تواصل خاص.



جلس على مقعد الحديقة وفتح الجريدة ليقرأ .
لم يعد هناك الكثيرين ممن يقرؤون الصحف الورقية هذه الأيام.
عدل جلسته ورفع رجلا على رجل ونفض الصحيفة وتمتم بانزعاج وقلب الصفحة وعاد للغوص في تلك الصفحات الشاحبة .. سمع أصوات خربشة تصدر من جانب حاوية القمامة المبعوجة والصدئة القريبة من مقعده .. التفت ببطء ونظر بين قشرة موز وورقة شطيرة ألقاها صاحبها بعد قضم فضمتين أو ثلاث فقط . ما أن مد بصره حتى تلاقت عيناه وعينا فأر كان يسحب قطعة الخبز ليقضمها ..

ولكنه هو الآخر تسمر بعد التقاء العينين . ساد صمت لبضعة ثواني والعينان متلاقيان صمت غريب حقا . لم يكسره إلا انطلاق الفأر الذي اندفعت في عروقه جرعة كبيرة من الأدرينالين وغريزة البقاء امسك قطعة الخبز وسحبها وجرى مسرعا عبر الشارع إلى خلف الشجرة التي تجلس على جانب الرصيف .

ما أن وصل خلف الشجرة ألقى قطعة الخبز الثقيلة وتوقف يلهث ..
نظر من خلف جذع الشجرة التي اختبأ خلفها إلى الرجل على مقعد الحديقة ببطء ليجده جالس في مكانه واضعا الصحيفة على فخذه ورافعا عينيه تجاه الفأر يرمقه بغرابة عاد الفأر للاختباء واللهاث..

قال في نفسه : ماذا كان هذا .. لماذا هذه النظرة الغريبة . لم يسبق لي أن شعرت بهكذا نظرات .
تخترقني وتعرفني وتعترف بي .. لا اعرف هل أخاف من هذا أم استمتع به ..

اطل الفأر برأسه وتأمل ذالك الرجل الجالس على مقعد الحديقة . ليجد عينيه ترمقه من جديد.


- ما هذا .. لماذا ما يزال ينظر إلي .. لماذا لم استطع أن أتحرك . عيناه كانتا سوداوتين عميقتين كأنهما حفر تسقط بها إلى قعر الروح .. انا هنا اهتم بشأني الخاص ولا أحاول البحث عن أي شيئ يجعلني أواجه هذا العالم من حولي ومن بين كل شيئ هذا ما أقابله !؟ .. هل انا بحاجة هكذا شيئ

عاد الفأر للاختباء خلف الشجرة ..

- لا بد انه رحل .. نعم .. لماذا يجب أن يهتم لأمري .. هذا غير منطقي ..
ابتسم وضحك ضحكة قصيرة وقال لنفسه : الاهم لماذا اهتم أنا لأمره .. ها .. يبدو أنني بدأت اجن .

امسك الفأر قطعة الخبز بفمه وهم بالتحرك . ولكنه لم يستطع ترك المكان وتسمر لوهلة وهو يشعر بأن عيني الرجل لا تزال ترمقه .. كان يشعر بها من خلف الشجرة تخترقها وتتلمس فروه الرمادي الأغبر .. يطل الفأر برأسه من جديد .. الرجل ما يزال هناك . وما يزال يرمقه بغرابة .

- اللعنة .. ما هذا .. الم يرحل ذالك اللعين .. لماذا لا يتركني وشأني .. لماذا لا يزال هناك . هل يريد مني شيئ ما .. هل حقا هناك تواصل غريب ما لا افهمه بعد بيننا ؟


اطل الفأر من خلف جذع الشجرة ووقف على قائمتين مقابل الرجل على كرسي الحديقة الذي ترك الصحيفة على المقعد ووقف ببطء .

- هذا غير معقول .. لا يصدق .. هناك حقا تواصل ما بيننا .. اشعر أن كل الحواجز واختلاف الفصائل والوعي لم يعد حقيقيا .. مازال ينظر إلي .. ما زلت اشعر أن عينيه تحدق على جوهري وان عيني تحدق في جوهره من خلال عيناه السوداوتين ألامعتين . هذا شعور رائع .. هناك من ينظر لي ويتصل بروحي ويعرفني .. هو الآن أمامي.. يقتلني الفضول والحماس والخوف .. أريد أن اكون معه .. بالقرب منه .. محاولا بكل ما أوتيت أن أتواصل معه ..

ببطء شديد بدأ الفأر بالتقدم نحو الرجل .. والرجل أيضا بدأ بالتقدم نحو الفأر بنفس الوقت ..
عيناهما لم تتوقف لحظة عن النظر لعمق عيني الآخر ..



ومع تسارع حركتهما والتقاء عينيهما لم ينتبه كلاهما إلى أن الإشارة الضوئية خضراء والى تقدم سيارة مسرعة
صوت فرامل عالي واحتراق مطاط عجلات على الأسفلت ..

اصطدام .. وينقطع ذالك التواصل المميز والغريب بموت احدهما .

ملاحظة : النص بالأحمر يمكن أن يقرأ على أنه للرجل , أو الفآر , أو كلاهما معا 



راديو




كفين غليظتين خشنتين تمسكان بالمقود, وجسم كبير يرزح على كرسي السائق بالكاد تظهر من ملامحه الخشنة عينين غائرتين في ظلام الشرخ الأفقي بين القبعة والشال الملتف حول فمه .

عينين هادئتين باردتين كأنهما الموت, غير مهتمتين بما يحدث خارج النافذة المغلقة على طقس جميل وهواء عليل.

نقر ٌ على نافذة السيارة المتوقفة على جانب طريق مزدحم ..
التفت ببطء ليرى بائعا متجولا كان يريد أن يعرض عليه شيئ ً ما . ولكنه تراجع بخوف عندما رأى ملامح السائق .

وببطء أدار السائق رأسه مجددا ً إلى الأمام بعد ابتعاد البائع, وهمهم بصوت عميق بضع همهمات وصمت بينما كانت تتدلى من أسفل المقود بعض الأسلاك العارية .

رفع كفه الأيسر عن المقود ونظر لبضع ثواني إلى بطن كفه الذي بدت فيها بعض الأضواء الملونة الخافتة من تحت الجلد .
أعادها للمقود ورفع اليمنى ومدها ببطء باتجاه الراديو .
و وقفت اليد في الهواء للحظات وكأن الأصابع لا تعرف ماذا تريد أن تفعل قبل أن تدير المفتاح ويصدر صوت موسيقى لطيفة في خلفية مذيع ومذيعة يتحدثان بمرح .

المذيعة: بالتأكيد ستكون حفلة رائعة . نتمنى للرابحة أوقاتا ً سعيدة وسيتواصل معك المنتج لاستلام البطاقات
المذيع : بالتأكيد, وسنستمر في استلام الإجابات على سؤال المسابقة لذا لا تترددوا في إرسال الإجابات فمازال لدينا بطاقات لحفل مهرجان الموسيقى .
المذيعة: أنا أحسدها .. ستذهب هي وخطيبها للحفل .
المذيع : هذا رومانسي جدا ..
المذيعة : هل ستذهب أنت ؟
المذيع : لا .. سأكون هنا في العمل أتكلم عن المهرجان ..


يضحك كلاهما وتستمر الموسيقى المرحة للحظات قبل أن يعاودا الكلام .

المذيعة : لاحقا ً سنقدم تقريرا ً عن مجريات الحفل وكل المشاهير القادمين من الخارج, ولكن أريد أن أسألك .
المذيع : ماذا ؟
المذيعة : هل كنت تعرف أن شرب القهوة قد يكون مضرا ً بالصحة ؟
المذيع : أنا أشرب الكثير من القهوة .
المذيعة ضاحكة : أنت تشرب القهوة الآن .
المذيع : أها .. (و يصدر صوت شرب القهوة)
المذيعة : هناك دراسة جديدة عن منافع ومضار القهوة سنتكلم عنها ولكن قبل ذالك لدينا شيء مختلف اليوم .
المذيع : نعم اليوم لدينا شيء جديد وغريب في آن معا . لم يسبق لي في مجال عملي أن حدث أي شيء مشابه, وأنا أعمل كمذيع منذ زمن طويل .
المذيعة : نعم أنت كبير جدا ً وعجوز ( تضحك )
المذيع : حقا ً !؟ ..
المذيعة ضاحكة : أمزح معك .. آسفة على المقاطعة . أكمل .
المذيع : حسنا ً . تعرفين كيف أننا نذيع أخبار المشاهير والحفلات والمهرجانات .
المذيعة : طبعا ً ..
المذيع : ونذيع أيضا ً الإعلانات التجارية .
المذيعة : نعم طبعا ً .
المذيع : اليوم لدينا شيء مختلف .. وصلتنا رسالة من إدارة القناة وطُلب منا أن نقرأها على الهواء في وقت محدد ودقيق .
المذيعة : ماذا في الرسالة ؟
المذيع : لا أعرف .. هي في ظرف مغلق .. لا أحد يعرف ماذا في الرسالة .
المذيعة : ولا حتى مديرتنا !
المذيع : ولا حتى مديرتنا .. الظرف وصل من أعلى .
المذيعة : أوو . هذا مثير .. ماذا يوجد فيه يا ترى ؟!
المذيع : سنعرف خلال لحظات . يجب أن نقرأ الرسالة الساعة الرابعة تماما ً ..
المذيعة : الساعة الرابعة الآن .؟!
المذيع : ليس بعد .. إنها الثالثة وثمان وخمسون ..
المذيعة ساخرة : أه يا دقيق يا أنت !
المذيع : طبعا هذه هي التعليمات .
المذيعة : افتح الظرف طيب ..

صوت ورق على الراديو وظرف يفتح وورقة تخرج من الظرف

المذيعة : ماذا في الرسالة .. لقد شوقتني .
المذيع : لم أفهم شيء .
المذيعة : لقد أصبحت الساعة الرابعة تماما ً .. هيا اقرأها .
يبدأ المذيع بقراءة الرسالة :

رسالة إلى سار ..
سار . أعرف أنك تسمعني . لقد عاد الكرفون, وسيحصل الجميع على أوكسيجين ووقت حر في القو . لن يشرق القمر بعد الآن .. أرجوك عد . لم يعد الأمر يستحق المخاطرة . دع رام الطفل وشأنه وعد إلى عام 3147 . . ريف وكارا في انتظارك
.”

يصمت المذيعان في حين تستمر الموسيقى المرحة في الخلفية لبرهة قبل أن ترد المذيعةبصوت ملؤه التعجب والدهشة.

-
ماذا !؟!



يرد صوت المذيع بحيرة واضحة : لا .. لا أعرف .. ولم أفهم شيئً !
المذيعة :هل هذه مزحة ؟!
المذيع : لا أعرف .. ربما هي مسابقة جديدة .
المذيعة : الناس وعلى ماذا يدفعون أموالهم . هذا الوقت الإذاعي ثمنه فلوس .
المذيع : لا أعرف ربما هناك من لديه الكثير من المال ليضيعه على هكذا رسائل .
المذيعة : ما علينا . لقد قمت بقر اءتها في وقتها .. الآن للمزيد عن حفل افتتاح مهرجان الموسيقى وفضائح المشاهير . ولكن قبل هذا سنتكلم عن دراسة جديدة أجرتها جامعة …..

تمتد يد غليظة وتدير مفتاح الراديو وتسكت المذيعة قبل أن تنهي جملتها …
تعود اليد الغليظة للإمساك بالمقود ويتجمد الرجل الضخم القابع في مقعد السائق للحظات .. 


قبل أن يجهش بالبكاء كالأطفال ..