تواصل خاص.



جلس على مقعد الحديقة وفتح الجريدة ليقرأ .
لم يعد هناك الكثيرين ممن يقرؤون الصحف الورقية هذه الأيام.
عدل جلسته ورفع رجلا على رجل ونفض الصحيفة وتمتم بانزعاج وقلب الصفحة وعاد للغوص في تلك الصفحات الشاحبة .. سمع أصوات خربشة تصدر من جانب حاوية القمامة المبعوجة والصدئة القريبة من مقعده .. التفت ببطء ونظر بين قشرة موز وورقة شطيرة ألقاها صاحبها بعد قضم فضمتين أو ثلاث فقط . ما أن مد بصره حتى تلاقت عيناه وعينا فأر كان يسحب قطعة الخبز ليقضمها ..

ولكنه هو الآخر تسمر بعد التقاء العينين . ساد صمت لبضعة ثواني والعينان متلاقيان صمت غريب حقا . لم يكسره إلا انطلاق الفأر الذي اندفعت في عروقه جرعة كبيرة من الأدرينالين وغريزة البقاء امسك قطعة الخبز وسحبها وجرى مسرعا عبر الشارع إلى خلف الشجرة التي تجلس على جانب الرصيف .

ما أن وصل خلف الشجرة ألقى قطعة الخبز الثقيلة وتوقف يلهث ..
نظر من خلف جذع الشجرة التي اختبأ خلفها إلى الرجل على مقعد الحديقة ببطء ليجده جالس في مكانه واضعا الصحيفة على فخذه ورافعا عينيه تجاه الفأر يرمقه بغرابة عاد الفأر للاختباء واللهاث..

قال في نفسه : ماذا كان هذا .. لماذا هذه النظرة الغريبة . لم يسبق لي أن شعرت بهكذا نظرات .
تخترقني وتعرفني وتعترف بي .. لا اعرف هل أخاف من هذا أم استمتع به ..

اطل الفأر برأسه وتأمل ذالك الرجل الجالس على مقعد الحديقة . ليجد عينيه ترمقه من جديد.


- ما هذا .. لماذا ما يزال ينظر إلي .. لماذا لم استطع أن أتحرك . عيناه كانتا سوداوتين عميقتين كأنهما حفر تسقط بها إلى قعر الروح .. انا هنا اهتم بشأني الخاص ولا أحاول البحث عن أي شيئ يجعلني أواجه هذا العالم من حولي ومن بين كل شيئ هذا ما أقابله !؟ .. هل انا بحاجة هكذا شيئ

عاد الفأر للاختباء خلف الشجرة ..

- لا بد انه رحل .. نعم .. لماذا يجب أن يهتم لأمري .. هذا غير منطقي ..
ابتسم وضحك ضحكة قصيرة وقال لنفسه : الاهم لماذا اهتم أنا لأمره .. ها .. يبدو أنني بدأت اجن .

امسك الفأر قطعة الخبز بفمه وهم بالتحرك . ولكنه لم يستطع ترك المكان وتسمر لوهلة وهو يشعر بأن عيني الرجل لا تزال ترمقه .. كان يشعر بها من خلف الشجرة تخترقها وتتلمس فروه الرمادي الأغبر .. يطل الفأر برأسه من جديد .. الرجل ما يزال هناك . وما يزال يرمقه بغرابة .

- اللعنة .. ما هذا .. الم يرحل ذالك اللعين .. لماذا لا يتركني وشأني .. لماذا لا يزال هناك . هل يريد مني شيئ ما .. هل حقا هناك تواصل غريب ما لا افهمه بعد بيننا ؟


اطل الفأر من خلف جذع الشجرة ووقف على قائمتين مقابل الرجل على كرسي الحديقة الذي ترك الصحيفة على المقعد ووقف ببطء .

- هذا غير معقول .. لا يصدق .. هناك حقا تواصل ما بيننا .. اشعر أن كل الحواجز واختلاف الفصائل والوعي لم يعد حقيقيا .. مازال ينظر إلي .. ما زلت اشعر أن عينيه تحدق على جوهري وان عيني تحدق في جوهره من خلال عيناه السوداوتين ألامعتين . هذا شعور رائع .. هناك من ينظر لي ويتصل بروحي ويعرفني .. هو الآن أمامي.. يقتلني الفضول والحماس والخوف .. أريد أن اكون معه .. بالقرب منه .. محاولا بكل ما أوتيت أن أتواصل معه ..

ببطء شديد بدأ الفأر بالتقدم نحو الرجل .. والرجل أيضا بدأ بالتقدم نحو الفأر بنفس الوقت ..
عيناهما لم تتوقف لحظة عن النظر لعمق عيني الآخر ..



ومع تسارع حركتهما والتقاء عينيهما لم ينتبه كلاهما إلى أن الإشارة الضوئية خضراء والى تقدم سيارة مسرعة
صوت فرامل عالي واحتراق مطاط عجلات على الأسفلت ..

اصطدام .. وينقطع ذالك التواصل المميز والغريب بموت احدهما .

ملاحظة : النص بالأحمر يمكن أن يقرأ على أنه للرجل , أو الفآر , أو كلاهما معا