موت ملحد ..

الفصل الأول :   رياح جافة وباردة .. سماء بلا ملامح [ البيت القديم ]

علامات السهر والجدية بادية على وجوه أبناء وبنات أحمد إبن عبد الله المستلقي بين الشراشف والأغطية البيضاء الباردة وتجاعيد السنين تنحت على تضاريس وجهه تاريخ كفاحه مع الحياة وعلى خلاف أبنائه لم يكن يشعر بحسرة أو ندم فقد عاش حياته كما يحب ويتمنى وترك من بعده ثقافة وتربية صالحة يحملها أبناؤه معهم إلى المستقبل
كان كل حزنه في تلك اللحظات أنه لم يفلح في الدخول لقلب إبنته ياسمين التي لم تزره منذ أن تزوجت وهجرت عملها ودراستها .. لم تزل كلماتها في آخر لقاء لهما عالقة بقلبه كالخنجر
( أنت إنسان ملحد تكره الله .. مصيرك إلى جهنم وأنا لا أريد أن أحاسب على قرابتنا .. أنا أتبرأ منك )
لم يعرف أين أخطأ في تربيتها أو ربما لأنه لم يغمرها بحبه كما يجب ..
أم تراه حبها لزوجها الذي غيرها وجعلها تبتعد عن عملها ودراستها وتضع الحجاب ومن ثم النقاب
لكن لا بأس .. طالما هي سعيدة بحياتها فهو سعيد وراض ٍ
أطلق تنهيدة متعبة وصدى كلماتها ما يزال يتردد في عمق ذاته ( أنا أتبرأ منك ..)
لم يعد هناك متسع للندم - قالها لنفسه- لقد فعلت كل ما أستطيع فعله وعلى أكمل وجه ممكن في حينه ولن أنتظر طويلا حتى يحل ذالك الزائر الثقيل الدم ضيفا علينا في هذا البيت .. لا مفر منه بالنهاية والذي بت مع كل دوي سعال يعصف بصدري أو كل ألم صاعق يترافق مع تقلبي وحركتي أتمنى اقتراب زيارت الموت ليخلصني من عذابات هذا الجسد المنهك الهرم ..

----------------------------------------

بالرغم من كل شيئ كان يحبهم .. [ فلاش باك ]

نشأ أحمد ابن عبد الله في عائلة محافظة متدينة ولكنه لم يكن كأقرانه بل كان دائم البحث والتشكيك دؤوبا بالبحث عن الحقيقة وبعد سنوات طويلة من القرائة والدراسة والتفكير المضني توصل أحمد إلى أنه لا مفر من إتخاذ قراره المؤلم لكنه بنفس الوقت مريح بأن يعترف لنقسه أولا أنه إنسان ملحد لا يعتقد بوجود الآلهة والأرواح والجن والعالم الميتافيزيقي إلى أن تظهر أدلة ملموسة تحولها من غيبيات وخزعبلات إلى يقينيات مادية
وكانت المشكلة الأكبر هي في أنه أعتاد على مصارحة أهله بكل شيئ وأن يكون صادقا معهم مما دفعه في يوم من الأيام إلى الإعتراف لعائلته بموقفه بالنسبة للأديان والآلهة وكم كانت الصدمة كبيرة على عائلته وهو يعلن لهم إلحاده
والتي بدأت ردات فعلها بطرده من البيت أثناء إمتحاناته الجامعية مرورا بعدم إستقباله في المناسبات العائلية وطرده من الحي وخسارته لإحدى الوظائف الجيدة إلى آخر اللحظات في حياة والديه الغير راضين عنه الذين بقي يبرهما ويعتني بهما أثناء مرضهم وحتى وفاتهم حين هجرهم إخوته إلى بلدان أخرى وحياة جديدة ..
إخوته تبرأوا منه على الرغم من محاولاتهم بين الحين والآخر التراسل معه وإرسال الكتب الدينية والدعوات لأداء فريضة العمرة بل وحتى اللجوء للوعد والوعيد حيث أنه تعرض للتهديد بالقتل من أخيه خالد الصغير إذا لم يعد عن الطريق الذي إختاره ..
أخوه خالد الذي لطالما أحبه وكان يلاعبه وهو صغير ويساعده على كتابة وظائفه ويوصله إلى المدرسة ..
تلك الذكريات الجميلة التي لم تصمد طويلا قبل تحطمها على مشهد خالد وهو واقف يصرخ بغضب من فوق لحية شعثاء وثوب قصير هازا ً إصبعه بوجه أخيه مهددا إياه بالقتل في إحدى الإجتماعات العائلية
رغم كل شيئ بقي أحمد يحب عائلته ..
لم تثنه هذه الأفعال يوما عن حبه لهم إذ أنه عرف أنهم لا يحتكمون إلى قلوبهم أو عقولهم بل إلى ما يمليه عليهم المعتقد والكتاب والشيخ والذين ليس لهم سلطة أو معرفة أو حتى إكتراث بعلاقة عائلته معه أو علاقته بعائلته ..
وبقي أحمد هكذا على تواصل مع أخبار عائلته بشكل غير مباشر وساعدهم مرارا من وراء الكواليس وأمن تعليما جيدا ووظائف ملائمة لأبنائهم وبناتهم الائي يعاملونه كعم محب ولكن يتجنبون معرفة أهلهم بأنهم يقابلوه أو يعرفون بوجوده

----------------------------------------

دقت الساعة معلنة منتصف الليل [ الوصية ]

تنهد أحمد وهو ينظر من حوله إلى أبنائه وبناته ..
كم كان ذالك المنظر جميلا بالنسبة له .. حتى دموعهم كانت تعني له الكثير
حرك شفتيه المتشققتين وقال بصوت متعب متقطع : شـ .. شكرا ً لكم ..
لقد ملأتم حياتي بالسعادة و الأمل وكنتم هدفي ومبتغاي فيها ..
ليس لي بعد أن رأيتكم قد كبرتم وشق كل منكم طريقا واضحا في حياته إلا أن أودعكم وأن أترك الفرصة والمكان لغيري في هذا العالم ..
فقد أخذت نصيبي وأكثر وأنا راض ٍ وسعيد
وصيتي لكم أن تحبوا بعضكم وتحبوا الآخرين
ولا تبكوا علي .. بل أبقوني ذكرى سعيدة في ضمائركم ..
قالها ثم أغمض عينيه عن إبتسامة رضى وسلام نادر مع النفس لم تكدره غصات ودموع أبنائه وبناته من حوله والذين حاولوا جاهدين إخفائها احتراما له ولشجاعته في آخر لحظاته
أغمض عينيه لينام وكانت هذه الكلمات آخر ما قاله ..
توفي أحمد إبن عبد الله أثناء نومه عن عمر يناهز الخامسة والثمانين في الساعة الرابعة صباحا من ذالك اليوم

------------------------------------

الفصل الثاني :  إنهيار جسد [ شلل ]

قرابة الرابعة صباحة إستعاد أحمد إبن عبد الله وعيه واستيقظ من نومه ..
فتح عيني عقله - إدراكه ووعيه بكلمات أخرى - وحاول جاهدا لكن لم يستطع فتح عينيه فبدأ التفكير في باقي حواسه المهترئة عله يستطيع إستشعار ما حوله من وجود ..
هواء بارد برائحة الكتب والملاحف القديمة وورق جدران يخفي سنين من الفطريات الخفية خلفه
طعم كبرادة الحديد اللزج في فمه ..
سيئ ومزعج ولكنه إعتاد عليه فأصابعه أصابها الخدر وما عادت قادرة على الوصول لكوب الماء بجانب سريره ..
عطش وإحساس بعدم الجوع على الرغم من أنه لم يأكل شيئ من أيام .. ربما نسيت أحشائه كيف تطلب الطعام
جلد بالكاد يشعر لطول مدة إستخدامه كأنه أسلاك كهربائية محترقة في الجدران لا يمكن إزالتها أو إستبالها لا تقوم بإيصال إلا شرارات ألم من وقت إلى آخر و جسد ينسحق تحت وزنه ووزن الشراشف الرقيقة من فوقه كأنه قطعة عجين لم تخبز بالطريقة الصحيحة
حتى أنه بدأ يشعر بثقل شعر صدره يحطم أضلاعه ..
أذنان بالكاد تسمع أزيز رئتين أنهكهما اللهاث كأنها صرير باب قديم تحركه الرياح في بيت مهجور جيئتا وذهابا .. شهيقا وزفيرا
تكات ساعة الحائط ولسبب لم يستطع فهمه باتت عالية صاخبة بل ومزعجة مع كل تكة يشعر بقشعريرة تمتد كموجة من رأسه حتى أخمص قدميه .. كل تكة كأنها طبق بورسلان صيني غالي الثمن يصقط من الرف وينكسر إلى آلاف القطع .. مزعجة وغير محتملة ..
بدأ أحمد إبن عبد الله بعد أن أعيته محاولاته الفاشلة في تحريك يديه ورجليه أو حتى فتح عينيه يشغل نفسه عن ضجيج ساعة الحائط القديمة حيث بدأ يقول لنفسه

- : تلك الساعة القديمة عليها اللعنة لا أعرف لماذا إشتريتها في المقام الأول .. كان علي وضعها خارج الغرفة .. في لصالة ربما جانب رفوف الكتب القديمة ..آه تذكرت .. تلك الساعة كانت إرثا من أبي .. أنا لم أشتريها بل أحضرتها في صندوق كرتون إل هنا مع الكتب .. آه يا ترى لو كان أبي حيا .. هل كان سيفخر بي وبما أنجزته في حياتي
لقد أخرجت للدنيا أولادا أفخر بأن يحملو أسمي .. هل كان ابي ليقول نفس الشيئ يا ترى ..؟!

-----------------------------------

الغرغول .. [ كابوس]



لم يفكر أحمد ولو للحظة أثناء حواره الذاتي داخل جمجمته بأن أباه ينتظره أو أنه يراه من مكان ما .. لم تكن لديه أي أوهام بأنه سيستمر بالوجود بعد الموت .. لم تخطر تلك الفكرة على باله أو أي فكرة ما ورائية أو روحية أو خارقة للطبيعة ..
كانت بالنسبة له مجرد قصص أطفال ومكانها كتب الأطفال فقط

ولكن لوهلة شعر بوجود شيئ ما .. لأول مرة شعر بشيئ مختلف .. شعور بشيئ لا ينتمي لهذا العالم ..
شخص ما وكأنه يقف على السرير فوق رأسه ينظر إليه باسما ما لبث أن أصبح عند قدميه على حافة السرير ..
كان شعورا غريبا وكأن هذا الشيئ ينظر إليه و ينتظره ..
يريد الإنقضاض عليه أو فعل شيئ ما .. لم يفهم أحمد ذالك الشعور الذي بدأ يسيطر رويدا رويدا عليه ..
حاول فتح عينيه مجددا لكي ينظر ويرى ويتأكد أنه لا يوجد عفريت أو رجل أو عين تراقبه في عتمة الغرفة وأنها كلها أضغاث أحلام , ولكن جفونه خانته مجددا تاركتا إياه في ظلام و حيرة وقلق لا يسمحان له بالإستقرار .. حاول رفع يديه والركل بقدميه ولكنه كان بلا حول ولا قوة وكانت الشراشف الرقيقة بوزن الجبال
بدأ هذا القلق والألم بالتزايد بشكل متطرد و سريع تماما كما تبدأ الكوابيس بالسيطرة علينا فلا نستطيع الإستيقاظ أو الرجوع لحالة الحلم الهادء .. تدفق الأدرينالين في الدم جعل فكرة ذالك الشيئ الذي يجثو على حافة السرير تتحول إلى فكرة أنه بدأ بالحركة وأنه يقترب بعينين تراقب أحمد العجوز الممدد .. تقترب وكأنها غروغويل أسود كالظل بدون تفاصيل .. ربما منقار وما يشبه أجنحة الوطواط ولكن لا شيئ واضح في تلك الصورة إلا عينين ثاقبتين كأعين القطط .. ترقباه بعطش وجوع المفترسات ..
بدأ قلب أحمد إبن عبد الله بالخفقان بشدة وتنفسه صار أشبه بقرقعة الحجارة منه إلى أزيز وصرير ..
وذاك الشيئ يقترب ببطئ منه .. هو لا يراه ولكنه يشعر به .. يدرك وجوده .. وشعر بحركة الهواء التي يحركها ظله الأسود
وخلال جزء من الثانية تمكن من العودة إلى رشده في هذه المعمعة

- : هذا وهم .. عقلي يلعب علي خدعة ما .. هذا الكابوس جلي جدا وفي غير وقته أبدا .. أنا عجوز جسدي لن يحتمل هكذا نكسات .. لماذا يأتيني كابوس الآن .. .؟!

قليلا و ذالك الشيئ أصبح فوق جسد أحمد مباشرة وكأنه يجلس على صدره وأحس أحمد بأضلاعه كأنها تتكسر ..
رفع ذالك الشيئ يده إلى أحمد ببطء و فتح فمه وأحس أحمد بأنفاسه الباردة ترتطم بحبيبات العرق على جبهته مما جعله يصل إلى ذروة الكابوس والإستيقاظ فاتحا عينيه وهو يشهق شهقة طويلة ..
وعلى قدر ما كان أحمد مرتعدا متزلزلا من الداخل وهو مغمض العينين كان جسده هادئ تماما في غرفة مظلمة فارغة عندما فتحهما ..

------------------------------------

بين الساعة الرابعة والساعة الرابعة [خارج الزمن]

لحظة .. و لحظتين ..
حرك عينيه حول الغرفة ..
كانت الغرفة هي نفسها تلك الغرفة القديمة الباردة .. ليس بها أحد غير أحمد .. لا غيلان .. ولا أشباح .. ولا غورغولات مجنحة ..
قال في نفسه : من أين أتت فكرة هذا الوحش وهذا الكابوس بدون مقدمات ..
لا بد أن عقلي الباطن يعاني حقا من تقدمي بالسن أو أن أحشائي لا ترضى أن تتركني دون معركة أخيرة
ولكن .. ما هذا الشعور .. هناك شيئ جديد .. مختلف في الغرفة .. هناك شعور عميق بأن هناك شيئ ما ناقص ..

انتبه أحمد إلى وجود صوت بعيد بدأ بالعلو أشبه بصوت قرع طبل كبير .. وكأنه صدىً ما قادم من مكان بعيد ..
لا .. بل هو صوت قادم من داخله .. بكووم .. بكووم .. بكووم ..
كلما كان الصوت يعلو كلما ازدادت حيرة أحمد حتى لاحظ أنها تشبه نبضات القلب و أدرك عندها أن قلبه توقف عن الخفقان..
- : ولكن ما هو ذالك الصوت ؟ قال لنفسه ..
إنه صدى غياب دقات قلبه .. فراغ في ساحة الإدراك إعتاد القلب على ملئه بالنبض وهو الآن تجويف صوتي فارغ يصعب على العقل إدراكه وفهمه
ركز مجددا لعله يسمع نبضاته ولكن عبثا .. قلبه لا ينبض ..
تأكد من أنفاسه فوجد أنها خامدة صامتة لا صوت أزيز ولا حشرجة حنجرة قديمة ..
حاول تحريك عينيه جيئة وذهابا فهي آخر ما يستطيع تحريكه .. نظر حوله وانتبه للساعة ..
توقفت حركة عقاربها .. توقف الزمن عند الساعة الرابعة صباحا تماما .. لا مزيد من التكات المزعجة .. ولا حتى صوت ..
حتى ذرات الغبار الظاهرة في شريط الضوء الهارب من الستارة باتت كأنها فقاعات هواء قديم في الكهرمان
كل شيئ تجمد في الغرفة إلا وعيه بهذه اللحظة المرعبة .. لحظة واحدة وكأنها استمرت إلى الأبد
وتوقفت عيناه عن الحركة وهما ترمقان عقارب الساعة وتوقفتا عن الإرتجاف وخبى ذالك النور فيهما ..

--------------------------------------

موت [ ديــــــنـــغ … ! ]

أول دقة من دقات الساعة القديمة المعلقة على الحائط شقت صمت اللحظة كأنها الرعد وأيقظت الغبار النائم على عقاربها و كأنها ركلته في الهواء ..
بدأ شعور أحمد بالخوف يتلاشى رويدا رويدا حيث أنه أدرك أنها ليست إلا إجرائات تسجيل الخروج من الحياة وكأنك تدفع حسابك في فندق وترحل مع إبتسامة صفراء لحمال الشنط
ولكنه لم يستطع إلا التفكير في موته وأنه يريد البقاء .. الشعور .. الإدراك
غمرته الرغبة في الحياة كرد فعل غريزي أخير لهذا الجسد .. صيحة أخيرة يفرضها كضريبة ندفعها من إبائنا وشموخنا لأنه جسد من لحم ودم فيستمتع بتمريغ أنوفنا بعار في آخر لحظة من حياتنا حيث نتوسل بها بكل شفقة ووضاعة بضع لحظات إضافية من الحياة .. ولكن ليس هناك من مستمع و بالتأكيد ليس هناك من مجيب أو أمل في البقاء ..

ديـــــــــــنــــــــــــغ ..!

الرنة الثانية لساعة الحائط وبدأ البندول حركته البطيئة صعودا مجددا وكأن الزمن بدأ بالحركة بعد توقف كسول فنزولا بكل بطء وعيني أحمد الجافة ما تزال ترمق الساعة
قليلا وبدأت الألوان تختفي بداية باللون الأحمر محولة كل شيئ إلى لون أخضر مريض شاحب كأوراق الغار المجففة ومن ثم إختفى اللون الأصفر من ساحة الرؤيا محولة كل شيئ في عتمة الغرفة إلى الكحلي الشاحب
وبدت تتوضح له النقطة العمياء في عينيه تحت الساعة مباشرتا فلقد ثبتت عيناه وتوقفت عضلاتها عن أي حركة تمحو أثرها في الوعي
تحولت إلى بقع سوداء تزداد إتساعا كاحتراق صورة فوتوغرافية قديمة من وسطها إلى أطرافها
وأخيرا بدأ كل ما هو حوله وخصوصا الساعة على الجدار المعتم بالتلاشي والغياب في رمادية غريبة وكأنها لوحة سيئة بقلم الرصاص على ورق محروق

زفــــــــيـــــــــــر … !

أخرج ما في صدره من هواء ببطء وهدوء ولم يكن صوته عاليا بل كان كأنه فحيح طويل وثقيل وكان هذه المرة خاليا من أي حشرجة أو أزيز ..
حينها ضرب إدراك سمعه رنين عال مزعج كأنه صفير قطار .. بدأت حواسه تموت واحدة تلو الأخرى وقد حانت لحظة حاسة السمع
بدأت الغرفة تدور به وتميل وتميد وبدأت الجدران تتلوى وتتمطى وغاص أحمد في سريره وشعر أنه يسقط في هاوية على الرغم من شعوره أيضا بأنه ثابت لا يتحرك
اختفى الصفير ومعه تلاشت ببطء أغاني الطفولة وألحان الشباب والأغاني التي عشقها في حياته ورددها باستمرار .. حاول تذكرها ولكن رويدا رويدا إختفت الأغاني فالجمل الموسيقية ثم اختفت هوية الآلات فما عاد يميز بين صوت الغيتار والعود والبيانو وبعد لحظات حتى هذه اختفت ومن بعدها تساقطت النغمات من الوعي والذاكرة وتلاشى أي إدراك لاي صوت أكان صوت سيارة أم صوت أمه تناديه .. لم يعد يميز بينها .. حاول تذكر أي شيئ .. لم يفلح ..

أرعبه ذالك ولكنه لم يستطع حتى إختبار الشعور بالخوف .. لم يعد الأدرينالين يتحرك في مجرى الدم
إختفت الصورة الرمادية من عينيه تدريجيا مع موت الخلايا الشبكية وصار أحمد في لحظاته الأخيرة قابعا في ظلام حالك
لم يستطع سماع بقية دقات الساعة على الرغم من أنها كانت هناك عالية مزعجة يتردد صداها في الغرفة الباردة الفارغة
لم يسمعها .. ولن يسمعها بعد الآن ..

---------------------------------------

الأنا [ تلاشي و تفكك ]

يتطلب موت الدماغ بالكامل ثلاث دقائق من إنقطاع الأكسجين عنه ..
ولكن ما حدث لأحمد كان كأنه سنوات من الصداع والألم غطاها شعوره بأن الشراشف تسحقه تحتها
وأتى دور حاسة اللمس فأحس أحمد بالنار تأكل جلده وكأنه سيجارة سيئة إشتعلت من جانب واحد إبتدائا بأخمص قدميه مرورا بصدره حتى ألهبت جبينه فقد كان الدم في أوردته وشرايينه يتحرك بفهل الجاذبية باتجاه ظهره
في خضم هذه الصداع والألم حيث أن كل عصب في جسده يرفض الموت ويركل ويصرخ مستنجدا
كلها مجرد ثوان حتى بدأ شعور أحمد وإدراكه يتلاشى فاحترقت اللغة والتعابير وتساقطت كحبات المطر أولا حروف العطف والجر الأفعال ومن ثم الصفات تاركتا الأسماء لبرهة قبل أن تختفي بدورها تاركتا آخر موجود في جمجمة أحمد إبن عبد الله وهو الأنا الذي اختفى بموت أجزائه المكونة له جزئا جزئا و حاسة حاسة وذكرى فذكرى وكان آخر ما عبر في ذالك الدماغ الميت المفكك مع آخر إشارة كهربائية وحيدة فيه قبل أن تتلاشى في الفراغ كلمة : أنا..!
وهكذا تحول أحمد من إنسان ذا معنى وقيمة وحب وشعور وألم وذكرى ورأي وذكاء
تحول كل هذا إلى شيئ .. كالكرسي أو السرير أو المنضدة ..
تماما كأي شيئ آخر في هذه الغرفة المظلمة والباردة
وهكذا انتهى كل شيئ ..

يتبع ..
.

.

ليست هناك تعليقات: